المسألة الرابعة : زمان الحشر
وأما عن زمن الحشر : فقد اختلف أهل العلم فيه ، فذهب بعض العلماء كالبيهقي والغزالي (1) وغيرهما إلى أن هذا الحشر ليس في الدنيا وإنما هو في الآخرة عند الخروج من القبور (2) .
_________
(1) هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي ، فيلسوف متصوف ، له كتب كثيرة في الفقه والأصول والتفسير وغيرها ، ومنها : المستصفي ، الاقتصاد في الاعتقاد ، توفي سنة 505 هـ . العبر ( 2 / 387 ) ، شذرات الذهب ( 4 / 10 ) .
(2) انظر : المنهاج في شعب الإيمان ( 1 / 442 ) وفتح الباري ( 11 / 387 ) .
(1/227)
________________________________________
وذهب جماهير العلماء (1) إلى أن هذا الحشر يكون في الدنيا قبل قيام الساعة حيث يحشر الناس أحياء إلى الشام ، وأما الحشر من القبور إلى الموقف فهو على خلاف الصورة الواردة في حشر الناس إلى الشام حيث جاء في وصف حشر الدنيا ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين راهبين ، واثنان على بعير ، وثلاثة على بعير ، وأربعة على بعير ، وعشرة على بعير ، وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا » (2) إلى غير ذلك من الأحاديث التي تدل على أن المراد به حشر الموجودين في آخر الدنيا من أقطار الأرض إلى محلة المحشر بأرض الشام ، وقد ورد في هذا الحديث وغيره الركوب والأكل والنوم وإماتة النار من يتخلف ، ولو كان هذا بعد نفخة البعث لم يبق موت ولا ظهر يركب ويشترى ولا أكل ولا لبس في عرصات القيامة ، وأيضا : فإن حشر الآخرة قد جاءت به الأحاديث تبين بأن الناس مؤمنهم وكافرهم يحشرون حفاة عراة لا عاهات فيهم ، ففي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا بموعظة فقال : "
_________
(1) شرح مسلم للنووي ( 17 / 194 - 195 ) وفتح الباري ( 11 / 387 ) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب الرقاق ( 7 / 194 ) ، مسلم في صحيحه : كتاب الجنة وصفة نعيمها ( 4 / 2194 ) .
(1/228)
________________________________________
يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا (1) { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } (2) ، ألا وأن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام » (3) . فمن أين للذين يبعثون بعد الموت حفاة عراة حدائق يدفعونها في الشوارف ، أو أبعرة يركبها من يساق من الموقف إلى الجنة ، إن هذا في غاية البعد (4) .
وبهذا يتبين أن الحشر الوارد في الأحاديث السابقة إنما يكون في الدنيا قبل يوم القيامة ، أما حشر يوم القيامة فقد بينه حديث ابن عباس السابق ، فمن ذهب إلى خلاف ذلك فقد أخطأ وجانب الحق والصواب - والله أعلم .
قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله - : " فأما شرار الخلق فتخرج نار في آخر الزمان تسوقهم إلى الشام قهرا حتى تجمع الناس كلهم بالشام قبل قيام الساعة " (5) .
وقد سبق التنبيه إلى أن هذه النار غير النار التي خرجت في المدينة والتي تعد من الأشراط الصغرى ، والله أعلم .
_________
(1) جمع أغرل ، وهو من بقيت غرلته ، وهي الجلدة التي يقطعها الخاتن من الذكر : النهاية في غريب الحديث ( 3 / 362 ) .
(2) سورة الأنبياء ، الآية : 104 .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب الرقاق ( 7 / 194 ) ، ومسلم في صحيحه : كناب الجنة وصفة نعيمها ( 4 / 2194 ).
(4) انظر : النهاية في الفتن والملاحم لابن كثير ( 1 / 230 - 231 ) ، وفتح الباري لابن حجر ( 11 / 384 ) .
(5) لطائف المعارف لابن رجب ( 90 ) .