المبحث الثاني : وجوب الإيمان بكل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم
رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم التي جاء بها من عند الله عز وجل أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده أجمعين ، والسعادة والفلاح والصلاح في الدنيا والآخرة لمن أطاعه صلى الله عليه وسلم واتبع هديه وسار على نهجه ، وحاجة البشر إلى هذه الشريعة التي جاء الرسول بها صلى الله عليه وسلم أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب .
(1/24)
________________________________________
يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن الرسول صلى الله عليه وسلم : أرسله الله رحمة للعالمين ، وإماما للمتقين ، وحجة على الخلائق أجمعين ، أرسله على حين فترة من الرسل ، فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل ، وافترض على العباد طاعته وتعزيره وتوقيره ومحبته ، والقيام بحقوقه ، وسد دون جنته الطرق ، فلن تفتح لأحد إلا من طريقه ، فشرح له صدره ، ورفع له ذكره ، ووضع عمه وزره ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره (1) وقد أوجب الله سبحانه وتعالى على جميع الخلق ، طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر به واجتناب ما نهى عنه ، وحذرهم من مخالفة أمره ، وجعل طاعته سبحانه وتعالى طاعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، ذلك أن التصديق الجازم بالرسول صلى الله عليه وسلم يقتضي التسليم المطلق والتام لما جاء له ويستلزم طاعته فيما بلغه عن الله تعالى ، وهذا من أعظم لوازم محبته صلى الله عليه وسلم والإيمان به ، وهو من مقتضى شهادة أن محمدا رسول الله ، وقد جاءت نصوص كثيرة في القرآن والسنة توجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتبين العلاقة بينها وبين طاعة الله تعالى ، وتحذر من معصيته ومخالفة أمره عليه الصلاة والسلام . ومن ذلك قوله
_________
(1) زاد المعاد ( 1 / 34 ، 35 ) .
(1/25)
________________________________________
تعالى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (1) وقوله تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (2) .
وقال تعالى : { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } (3) .
وقال تعالى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (4) .
وقال تعالى : . { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا } (5) ، وقال تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (6) ، وقال تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (7) ، وقال تعالى : { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } (
، وقال تعالى : { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا } (9) .
_________
(________________________________________
والآيات في الأمر بطاعته والتحذير من معصيته كثيرة في كتاب الله عز وجل .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : " وقد أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثلاثين موضعا من القرآن ، وقرن طاعته بطاعته ، وقرن بين مخالفته ومخالفته ، كما قرن بين اسمه واسمه فلا يذكر الله إلا ذكر معه " (1) .
ومن الأحاديث الدالة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم ، ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله » (2) الحديث .
وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى " قالوا : يا رسول الله ومن يأبى ؟ قال : " من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى » (3) .
..........................................................................
فهذه الآيات والأحاديث توجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وامتثال ما جاء به ، وذلك بفعل ما أمر به وتجنب ما نهى عنه ، وتبين أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي مفتاح الجنة وسبيل النجاة ، فلا فلاح ولا سعادة ولا نجاة للعبد إلا بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فمن أطاعه فيما جاء به من الحق المبين ، فقد نجا وزحزح نفسه عن النار ، ومن أبى وتكبر وعصى ، ولم يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به فقد خسر خسرانا مبينا ، وعرض نفسه لعذاب الله عز وجل ، فإنه ما من خير يوصل إلى الجنة إلا ودلنا عليه ، وما من شر يوصل إلى النار إلا وحذرنا منه عليه الصلاة والسلام . فيجب على كل مسلم طاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه ، واقتفاء أثره والسير على هديه ، وعدم مخالفة أمره ونهيه ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } (1) ، وقال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } . (2) .
_________
________________________________________
فعبادة الله وطاعته لم تترك للأهواء والأفكار ، بل هي مقيدة باتباعه صلى الله عليه وسلم فيما شرعه لأمته ، وهذا هو مقتضى شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد رتب الله سبحانه وتعالى على اتباعه والاقتداء بسنته ، الاهتداء والمغفرة ، وجعله علامة على صدق المحبة لله تعالى ، قال عز وجل : { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (1) ، ولما ادعى اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه ، أنزل آية المحبة ، وهي قوله تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }{ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } (2) .
________________________________________
ولا شك أن مما يجب على العباد ، محبة ربهم الذي خلقهم وأنعم عليهم ، ولكن حصول هذه المحبة وقبولها متوقف على اتباع هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، فقد جعل الله من ثواب اتباعه محبة الله تعالى لمن اتبعه ومغفرته له ، ولكن علامة هذا الاتباع طاعته صلى الله عليه وسلم والسير على نهجه ، والاقتداء به في سيرته وأعماله وقرباته ، وتجنب كل ما نهى عنه ، والحذر من مخالفته التي نهايتها الخروج عن التأسي به ؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما تعبدنا بطاعته واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم بما شرع لنا من هذا الدين الكامل ، ولهذا رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين أعرضوا عن الطيبات التي أنعم الله بها على عباده وهجروها تعبدا لله وتقربا إليه ، وقال لهم صلى الله عليه وسلم : « أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني » (1) .
________________________________________
والمتأمل في حال كثير من المسلمين اليوم يرى أنهم تركوا الاتباع والاقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى أصبحت السنة عندهم أمرا مستغربا مستنكرا لجهلهم بها وبعدهم عنها ، واستبدلوا ذلك بالبدع التي لا أصل لها ولا دليل عليها من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فاتخذوها دينا يدينون به ، فانعكست بذلك الموازين لديهم فأصبحوا يرون الحق باطلا والباطل حقا ، والمعروف منكرا والمنكر معروفا ، وما ذلك إلا لكونهم لم يعرفوا من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه ، بسبب ما هم عليه من قلة العلم وعدم معرفتهم بالسنة ، حتى وصل الحال إلى الوقوع في الشرك كما هو مشاهد في كثير من بلاد المسلمين ، وذلك بصرف ما هو حق لله سبحانه وتعالى ، لأصحاب القبور وإشراكهم مع الله فيما لا يستحقه ولا يقدر عليه إلا الله ، وهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله أبدا .
ومن أصول الإيمان ولوازمه ، التصديق الجازم بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم والتسليم بصحة كل ما أخبر به ، وبأنه بلغ الرسالة ؛ لأن ما جاء به وحي من الله تعالى ، كما قال تعالى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى }{ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (1) .
________________________________________
وقد قال الله تعالى في الرسول صلى الله عليه وسلم : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } (1) .
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلقب قبل بعثته بالصادق الأمين ، وكانت قريش تدعوه بذلك . لذا يجب علينا تصديقه صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به ، ومن رد شيئا مما أخبر به عليه الصلاة والسلام وكذبه فيه فهو كافر ، سواء كان رده اتباعا للهوى ، أو لشريعة منسوخة ، أو لفلسفة موروثة ، أو لعلم وضعي ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : « والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، يهودي ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به ، إلا كان من أصحاب النار » (2) فكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بوقوعه فالإيمان به واجب على كل مسلم ، وذلك من تحقيق الشهادة بأنه رسول الله ، وقد قال الله تعالى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى }{ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (3) .
وكل شيء أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون بعده ، فوقع الأمر فيه طبق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم ، فهو من معجزاته وأعلام نبوته عليه الصلاة والسلام .
________________________________________
يقول الموفق أبو محمد المقدسي (1) - رحمه الله - : " ويجب الإيمان بكل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصح به النقل عنه فيما شهدناه أو غاب عنا ، نعلم أنه حق وصدق ، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه ، مثل حديث الإسراء والمعراج ، ومن ذلك أشراط الساعة مثل : خروج الدجال ، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام وقتله له ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وخروج الدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، وأشباه ذلك مما صح به النقل " (2) .