المسألة الثالثة : مكان نزوله
ينزل عيسى عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق واضعا كفيه على أجنحة ملكين ، وعليه مهرودتان ، ويكون هذا مع صلاة الفجر حيث اصطف المسلمون للصلاة ، وقد تقدم إمامهم - والغالب أنه المهدي كما سبق - للصلاة بهم ، فعندما يعلم بعيسى عليه السلام يتأخر ويطلب من عيسى أن يتقدم ليؤمهم فيأبى ، فيصلي بهم المهدي ، فعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : « . . . فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر ، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ ، فلا يحل لكافر يجد نفسه إلا مات ، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه ، فيطلب بباب لد فيقتله ، ثم يأتي عيسى ابن مريم قوما قد عصمهم الله منه ، فيسمح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة » (1) .
_________
(1) تقدم تخريجه ص 97 .
(1/152)
________________________________________
يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - : " الأشهر في موضع نزوله أنه على المنارة البيضاء الشرقية بدمشق ، وقد رأيت في بعض الكتب أنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي جامع دمشق ، فلعل هذا هو المحفوظ ، وتكون الرواية فينزل على المنارة البيضاء الشرقية بدمشق ، فتصرف الراوي في التعبير بحسب ما فهم ، وليس بدمشق منارة تعرف بالشرقية سوى التي إلى شرق الجامع الأموي ، وهذا هو الأنسب والأليق ؛ لأنه ينزل وقد أقيمت الصلاة " (1) .
ويقول الحافظ ابن رجب - رحمه الله - : " وبالشام ينزل عيسى ابن مريم في آخر الزمان ، وهو المبشر بمحمد صلى الله عليه وسلم ويحكم به ولا يقبل من أحد غير دينه ، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويصلي خلف إمام المسلمين ويقول : إن هذه الأمة أئمة بعضهم لبعض " (2) .
_________
(1) النهاية في الفن والملاحم : ( 1 / 192 ) .
(2) لطائف المعارف ص ( 90 ) .
(1/153)
________________________________________
وأما مدة بقاء عيسى عليه السلام إذا نزل : ففي بعض الروايات أنه يمكث سبع سنين ، وفي الروايات الأخرى أنه يمكث أربعين عاما ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ، ففي حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « فيبعث الله عيسى ابن مريم . . . ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته » (1) .
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق : « ثم يمكث في الأرض أربعين سنة ، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون » .
وقد جمع الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بين الروايتين فقال : " هكذا وقع في الحديث : أنه يمكث أربعين سنة ، وثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أنه يمكث في الأرض سبع سنين ، فهذا مع هذا مشكل ، اللهم إلا إذا حملت هذه السبع على مدة إقامته بعد نزوله ، وتكون مضافة إلى مدة مكثه فيها قبل رفعه إلى السماء ، وكان عمره إذ ذاك ثلاثا وثلاثين سنة على المشهور ، والله أعلم " (2) .
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب الفتن وأشراط الساعة ( 4 / 2258 ) .
(2) النهاية في الفتن والملاحم ( 1 / 193 ) .
(1/154)
________________________________________
وقد عارض السفاريني هذا الجمع فقال بعد أن ذكره بدون عزو : وهذا - والله أعلم - ليس بشيء لما مر من حديث عائشة عند الإمام أحمد وغيره « فيقتل الدجال ، ثم يمكث عيسى في الأرض أربعين سنة » ، ثم حكى عن البيهقي أنه اعتمد رواية " أربعين " ، كما نقل عن السيوطي أنه ذهب إلى ترجيحها ؛ لأن زيادة الثقة يحتج بها ، ولأنهم يأخذون برواية الأكثر ويقدمونها على رواية الأقل لما معها من زيادة العلم ، ولأنه مثبت والمثبت مقدم (1) .
وقال البرزنجي : " إن القليل لا ينافي الكثير " (2) .
ولعل الراجح أن يقال : إن رواية " أربعين سنة " هي المعتمدة ؛ لأنها رواية الأكثر ، كما أشار إلى ذلك السفاريني ، ولعل هذه السنين تمر كأنها سبع سنين ، ويستأنس لذلك بما رواه عبد بن حميد عن أبي هريرة رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ } (3) . قال : خروج عيسى ، يمكث في الأرض أربعين سنة ، وتكون تلك الأربعون كأربع سنين ، يحج ويعتمر (4) . والله أعلم .
_________
(1) لوامع الأنوار البهية ( 2 / 99 ) .
(2) الإشاعة ص ( 304 ) .
(3) سورة الزخرف ، الآية : 61 .
(4) انظر : الدر المنثور : ( 6 / 20 ) .
(1/155)
________________________________________
المسألة الرابعة : الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه السلام متواترة
سبق ذكر بعض الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه السلام ، وهي تدل دلالة واضحة على ثبوت نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان ، ولا حجة لمن ردها أو قال : إنها أحاديث آحاد لا تقوم بها الحجة أو أن نزوله ليس عقيدة من عقائد المسلمين التي يجب عليهم أن يؤمنوا بها ؛ لأنه إذا ثبت الحديث وجب الإيمان به وتصديق ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ولا يجوز لنا رد قوله لكونه حديث آحاد ؛ لأن هذه حجة واهية ؛ لأن حديث الآحاد إذا صح وجب تصديق ما فيه ، وإذا قلنا إن حديث الآحاد ليس بحجة ، فإننا نرد كثيرا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويكون ما قاله عليه الصلاة والسلام عبثا لا معنى له ، كيف والعلماء قد نصوا على تواتر الأحاديث في نزول عيسى عليه السلام .
(1/156)
________________________________________
قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - " أصوله السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والاقتداء بهم ، وترك البدع ، وكل بدعة فهي ضلالة ثم ذكر جملة من عقيدة أهل السنة ثم قال : والإيمان أن المسيح الدجال خارج مكتوب بين عينيه " كافر" ، والأحاديث التي جاءت فيه ، والإيمان بأن ذلك كائن ، وأن عيسى ينزل فيقتله بباب لد " (1) . وقال أبو الحسن الأشعري (2) - رحمه الله - في سرده لعقيدة أهل الحديث والسنة " الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وما جاء من عند الله وما رواه الثقّات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئا ويصدقون بخروج الدجال وأن عيسى يقتله ، ثم قال في آخر كلامه : وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول : وإليه نذهب " (3) .
وقال ابن جرير الطبري بعد ذكره الخلاف في معنى وفاة عيسى عليه السلام ، " وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال : معنى ذلك : إني قابضك من الأرض ورافعك إلي ؛ لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال " (4) ، ثم ساق بعض الأحاديث الواردة في نزوله .
_________
(1) طبقات الحنابلة ( 1 / 241 - 243 ) .
(2) هو الإمام العلامة أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري البصري ، نشأ في حجر زوج أمه أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة في عصره ، وقد تتلمذ عليه واعتنق مذهبه ، ما يقارب من أربعين سنة ، ثم هداه الله إلى مذهب أهل السنة والجماعة بعد مروره بمذهب الكلابية ، فأعلن أنه على مذهب أحمد بن حنبل ، وله مصنفات كثيرة ، ومن أشهرها : مقالات الإسلاميين ، وكتاب اللمع ، والوجيز ، وغيرها ، وكان آخر ما ألف كتابه : الإبانة عن أصول الديانة ، توفي سنة 324 هـ . تبيين كذب المفتري : ( 34 ) وسير أعلام النبلاء ( 15 / 85 ) والبداية والنهاية ( 11 / 186 ) ، وشذرات الذهب ( 2 / 303 - 305 ) .
(3) مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ( 1 / 345 ) .
(4) تفسير الطبري 3 / 291 .
(1/157)
________________________________________
وقال ابن كثير " تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا " (1) . وقال صديق حسن خان "والأحاديث في نزوله عليه السلام كثيرة ، ذكر الشوكاني منها تسعة وعشرين حديثا ما بين صحيح وحسن وضعيف منجبر ، منها ما هو مذكور في أحاديث الدجال . . . ومنها ما هو مذكور في أحاديث المنتظر ، وتنضم إلى ذلك أيضا الآثار الواردة عن الصحابة فلها حكم الرفع ؛ إذ لا مجال للاجتهاد في ذلك ، ثم ساقها وقال : جميع ما سقناه بالغ حد التواتر كما لا يخفى على من له فضل اطلاع " (2) .
_________
(1) تفسير ابن كثير 7 / 223 .
(2) الإذاعة ص 160 .
(1/158)
________________________________________
وقال الغماري : " وقد ثبت القول بنزول عيسى عليه السلام عن غير واحد من الصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة والعلماء من سائر المذاهب على ممر الزمان إلى وقتنا هذا (1) ، وقال : تواتر هذا تواترا لا شك فيه بحيث لا يصح أن ينكره إلا الجهلة الأغبياء كالقاديانية ومن نحا نحوهم ؛ لأنه نقل بطريق جمع عن جمع حتى استقر في كتب السنة التي وصلت إلينا تواترا بتلقي جيل عن جيل " (2) . وممن جمع الأحاديث في نزول عيسى عليه السلام الشيخ محمد أنور شاه الكشميري (3) في كتابه " التصريح بما تواتر في نزول المسيح " فذكر أكثر من سبعين حديثا .
وقال صاحب عون المعبود شرح سن أبي داود : " تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم من السماء بجسده العنصري إلى الأرض عند قرب الساعة ، وهذا هو مذهب أهل السنة " (4) .
وقال الشيخ أحمد شاكر : " نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان مما لم يختلف فيه المسلمون لورود الأخبار الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك . . . وهذا معلوم من الدين بالضرورة لا يؤمن من أنكره " (5) .
_________
(1) عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام ص 12 .
(2) المصدر السابق ص : 5 .
(3) هو العلامة المحدث محمد أنور شاه الكشميري الهندي ، له عدة مؤلفات منها : فيض الباري على صحيح البخاري في أربعة مجلدات ، والعرف الشذي على جامع الترمذي وغيرهما . توفي في ديوبند سنة 1352 هـ . انظر ترجمته في مقدمة كتاب التصريح لعبد الفتاح أبو غدة محقق الكتاب .
(4) عون المعبود 11 / 457 .
(5) من حاشية تفسير الطبري 6 / 460 تخريج الشيخ أحمد محمد شاكر ، وتحقيق محمود محمد شاكر ، مطبعة دار المعارف مصر .
(1/159)
________________________________________
وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني : " اعلم أن أحاديث الدجال ، ونزول عيسى عليه السلام متواترة ، يجب الإيمان بها ، ولا تغتر بمن يدعي فيها أنها أحاديث آحاد ، فإنهم جهال بهذا العلم ، وليس فيهم من تتبع طرقها ولو فعل لوجدها متواترة كما شهد بذلك أئمة هذا العلم كالحافظ ابن حجر وغيره ، ومن المؤسف حقا أن يتجرأ البعض على الكلام فيما ليس من اختصاصهم لا سيما والأمر دين وعقيدة " (1) .
_________
(1) انظر : حاشية العقيدة الطحاوية تخريج الألباني ص 565 .