المسألة الثالثة : السد ويأجوج ومأجوج
بنى ذو القرنين (1) سد يأجوج ومأجوج ليحجز بينهم وبين جيرانهم الذين استغاثوا به منهم . وقد ورد في القرآن الكريم ذكر هذا السد ، فقال تعالى : { قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا }{ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا } (2) .
هذا ما ورد في القرآن على بناء هذا السد .
أما مكانه : ففي جهة المشرق (3) لقوله تعالى : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ } (4) .
_________
(1) اختلف في اسمه ، فروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه عبد الله بن الضحاك ، وقيل : مصعب بن عبد الله ، وقيل غير ذلك ، وسمي بذي القرنين ؛ لأنه قد بلغ المشارق والمغارب من حيث يطلع قرن الشيطان ويغرب ، وقيل غير ذلك ، وكان ذو القرنين عبدا مؤمنا صالحا ، وهو عبر ذي القرنين الإسكندر المقدوني ، فإن هذا كان كافرا ، وزمنه متأخر عن المذكور في القرآن الكريم وبينهما أكثر من ألفي سنة ، والله أعلم . انظر : البداية والنهاية : ( 2 / 102 - 106 ) ، وتفسير ابن كثير ( 3 / 100 ، 101 ) .
(2) سورة الكهف ، الآيتان : 94 ، 95 .
(3) انظر : تفسير ابن كثير ( 5 / 195 ) .
(4) سورة الكهف ، الآية : 90 .
(1/181)
________________________________________
وقد ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - قصة عن السد ومحاولة بعض الملوك الوصول إليه فقال : وقد بعث الخليفة الواثق (1) في دولته بعض أمرائه وجهز معه جيشا سرية لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتوه له إذا رجعوا ، فوصلوا من بلاد إلى بلاد ومن ملك إلى ملك حتى وصلوا إليه ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس ، وذكروا أنهم رأوا فيه بابا عظيما وعليه أقفال عظيمة ، ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك ، وأن عنده حراسا من الملوك المتاخمة له وأنه عال منيف شاهق ، لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال ، ثم رجعوا إلى بلادهم وكانت غيبتهم أكثر من سنتين وشاهدوا أهوالا وعجائب . (2) .
ولم يذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - سندا لهذه القصة ، ولم يتكلم عليها بشيء .
والذي تدل عليه الآيات السابقة أن هذا السد بني بين جبلين لقوله تعالى : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } والسدان : هما جبلان متقابلان ، ثم قال : { حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ } أي حاذى به رؤوس الجبلين (3) وذلك بزبر الحديد ثم أفرغ عليه نحاسا مذابا فكان سدّا محكما .
_________
(1) هو الخليفة العباسي هارون بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد ، بويع له بالخلافة سنة 228 هـ ، وتوفي سنة 232 هـ . انظر : البداية والنهاية : ( 10 / 308 ) .
(2) تفسير ابن كثير : ( 3 / 99 ) .
(3) المصدر السابق : ( 3 / 98 ، 99 ) .
(1/182)
________________________________________
قال الإمام البخاري - رحمه الله - : « قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : رأيت السد من البرد المحبر . قال : " قد رأيته » (1) .
ويمكن أن يكون هذا السد هو السور المحيط بمدينة ترمذ (2) الذي ذكره ياقوت الحموي (3) في معجم البلدان ، وليس هو سد ذي القرنين .
وأيضا : فإن البحث في تحديد مكان السد لا يهم كثيرا ؛ ولا يحصل بعدم معرفته خلل في الاعتقاد ؛ لأن المقصود بيان أن ما أخبرنا الله تعالى به ، وما جاء في الأحاديث الصحيحة من أن سد يأجوج ومأجوج موجود إلى أن يأتي الوقت المحدد لدك هذا السد وخروج يأجوج ومأجوج ، وذلك عند دنو الساعة بهما في قوله عز وجل : { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا }{ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا } (4) ، كل ذلك : حقيقة يجب التصديق به .
_________
(1) أخرجه البخاري معلقا في صحيحه في باب قصة يأجوج ومأجوج 6 / 381 .
(2) ( ترمذ ) : قال ياقوت : مدينة مشهورة من أمهات المدن راكبة على نهر جيحون من جانبه الشرقي . . . يحيط بها سور وأسواقها مفروشة بالآجر ، وممن ينسب إليها الإمام محمد بن عيسى بن سَوَرة الترمذي صاحب الجامع الصحيح والعلل . معجم البلدان ( 2 / 26 ، 27 ) .
(3) هو أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي ، أصله من الروم ، الإخباري النحوي ، المؤرخ ، من مؤلفاته معجم البلدان ، توفي سنة 626 هـ . وفيات الأعيان ( 6 / 127 ) ، سير أعلام النبلاء ( 22 / 312 ) .
(4) سورة الكهف ، الآيتان : 98، 99 .
(1/183)
________________________________________
والذي يدل على أن السد موجود ولم يندك ، حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في السد قال : « يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يخرقونه قال الذي عليهم : ارجعوا فستخرقونه غدا ، قال : فيعيده الله عز وجل كأشد ما كان حتى إذا بلغوا مدتهم وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس قال الذي عليهم : ارجعوا فستخرقونه غدا إن شاء الله تعالى واستثنى ، قال : فيرجعون وهو كهيئته حين تركوه فيخرقونه ويخرجون على الناس ، فيستقون المياه ويفر الناس منهم » (1) .
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في الفتح : قال ابن العربي - رحمه الله : " في هذا الحديث ثلاث آيات : الأولى : أن الله منحهم أن يوالوا الحفر ليلا ونهارا ، والثانية : منعهم أن يحاولوا الرقي على السد بسلم أو آلة فلم يلهمهم ذلك ولا علمهم إياه ، الثالثة : أنه صدهم عن أن يقولوا : إن شاء الله حتى يجيء الوقت المحدد " (2) .
فخروجهم الذي هو من أشراط الساعة الكبرى في آخر الزمان لم يقع ؛ لأن الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن خروجهم بعد نزول عيسى عليه السلام ، وهو الذي يدعو الله عز وجل بأن يهلكهم فيهلكون ويسلم الناس من شرهم .
_________
(1) تقدم تخريجه ص 133 .
(2) فتح الباري ( 13 / 190 ) .
(1/184)
________________________________________
فيجب على كل مسلم الإيمان بما جاء في الكتاب والسنة عن السد ويأجوج ومأجوج ، ولا عبرة بمن أنكر وجود يأجوج ومأجوج ووجود السد الذي بناه ذو القرنين بينهم وبين الناس بحجة ظهور دول الكفر المتقدمة في الصناعة ، وأن هؤلاء استطاعوا أن يكتشفوا كل ما في الأرض ولم يتركوا منها شيئا إلا أتوا عليه ، ولكنهم لم يعثروا على يأجوج ومأجوج ، ولم يروا سد ذي القرنين ، ولا شك أن هذا قول فاسد ؛ لأنه تكذيب صريح لما جاء في كتاب الله عز وجل ، ولما أخبر به رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى ، ومن كذب بشيء جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد كفر ، كما قال تعالى : { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ } (1) .
_________
(1) سورة العنكبوت ، الآية : 47 .
(1/185)
________________________________________
وأما دعواهم أن الأرض اكتشفت كلها ولم يجدوا فيها يأجوج ومأجوج والسد ، فهي دعوى باطلة تدل على عجز البشر وقصورهم ؛ لأن معرفة جميع بقاع الأرض والإحاطة بما فيهما من المخلوقات لا يقدر عليها إلا الله عز وجل الذي أحاط بكل شيء علما ، ولا يلزم من عدم رؤيتهم عدم وجودهم ؛ لأنه قد يكون الله عز وجل صرفهم عن رؤية يأجوج ومأجوج ورؤية السد ، أو جعل بينهم وبين الناس أشياء تمنع من الوصول إليهم كما حصل لبني إسرائيل حين ضرب الله عليهم التيه في فراسخ قليلة من الأرض ، فلم يطلع عليهم الناس حتى انتهى أمد التيه ، والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير ، جعل لكل شيء أجلا ووقتا ، قال تعالى : { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ }{ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } (1) . وما عجز الأوائل عن اكتشاف ما اكتشفه المتأخرون إلا لأن الله عز وجل جعل لكل شيء أجلا (2) .
_________
(1) سورة الأنعام ، الآيتان : 66 ، 67 .
(2) انظر : إتحاف الجماعة ( 2 / 297 ) ، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد ( 214 ) .
(1/186)
________________________________________
المسألة الرابعة : هلاك يأجوج ومأجوج وطيب العيش وبركته بعد موتهم
بعد طغيان يأجوج ومأجوج وإفسادهم وعتوهم في الأرض وإهلاكهم للحرث والنسل ، يتضرع نبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام وأصحابه إلى الله سبحانه وتعالى ، ليكشف عنهم ما حل بهم من البلاء والمحن التي لم يجدوا بأنفسهم حيلة ولا قوة لدفعها ، فيستجيب الله لهم ، فيسلط الله عليهم الدود الصغير فيهلكهم فيصبحون موتى موت الجراد ، يركب بعضهم بعضا ، فتمتلئ الأرض من نتنهم ، فيؤذون الناس بنتنهم أشد من حياتهم ، فيتضرع نبي الله عيسى وأصحابه ثانية إلى الله عز وجل فيرسل طيرا تحملهم وتطرحهم في البحر ، ثم يرسل مطرا تغسل آثارهم ، ثم يأمر الله الأرض لترد بركتها وتنبت ثمارها ، فيعم الرخاء ، وتطرح البركة فيعيش عيسى ابن مريم وأصحابه في عيش رغيد .
(1/187)
________________________________________
ففي حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه الطويل الذي مر ذكره فيما سبق أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيه : « ويحاصر عيسى ابن مريم وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم ، فيرغب نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه ، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم ، فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ، ثم يهبط نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الأرض ، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ، ونتنهم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله ، فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ، ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر ، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة ثم يقال للأرض : أنبتي ثمرتك ، وردي بركتك ، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ، ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس ، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس ، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس » (1) .
_________
(1) تقدم تخريجه ص 97 .
(1/188)
________________________________________
وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « " . . . ثم يهز أحدهم حربته ثم يرمي بها إلى السماء ، فترجع متخضبة دما للبلاء والفتنة ، فبينا هم على ذلك ، بعث الله دودا في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه ، فيصبحون موتى لا يسمع لهم حسٌّ ، فيقول المسلمون : ألا رجل يشري لنا نفسه ، فينظر ما فعل هذا العدو ، قال : فيتجرد رجل منهم لذلك محتسبا لنفسه قد أطنها على أنه مقتول ، فينزل فيجدهم موتى ، بعضهم على بعض ، فينادي : يا معشر المسلمين : ألا أبشروا ، فإن الله قد كفاكم عدوكم ، فيخرجون من مدائنهم وحصونهم ، ويسرحون مواشيهم ، فما يكون لها رعيٌ إلا لحومهم ، فتشكر عنه كأحسن ما تشكر عن شيء من النبات أصابته قط » (1) .
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ( 3 / 77 ) ، والحاكم في المستدرك ( 2 / 245 ) ( 4 / 489 ) وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي .