________________________________________
المطلب الثالث : نزول عيسى ابن مريم عليه السلام
من أمارات الساعة العظام وأشراطها الكبار نزول عيسى ابن مريم عليه السلام آخر الزمان من السماء ، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أنه ينزل قبل قيام الساعة فيقتل الدجال ويكسر الصليب ويحكم بالقسط ويقضي بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحيي من شأنها ما تركه الناس ، ثم يمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يموت ويصلى عليه ويدفن .
والكلام على عيسى عليه السلام يتضمن عدة مسائل :
المسألة الأولى : الأدلة على نزوله من الكتاب والسنة :
ورد في القرآن الكريم ثلاث آيات تدل على نزول عيسى عليه السلام :
الآية الأولى : قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ } (1) . أي أن نزول عيس عليه السلام قبل القيامة علامة على قرب الساعة ، ويدل على هذا : القراءة الأخرى ( وإنه لَعَلَم للساعة ) بفتح العين واللام ، أي خروجه علم من أعلام الساعة وشرط من شروطها وأمارة على قرب قيامها . وروى الإمام أحمد والحاكم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير هذه الآية { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ } قال : هو خروج عيسى ابن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة (2) .
_________
(1) سورة الزخرف ، الآية : 61 .
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ( 4 / 329 ) حديث رقم 2921 ، وقال أحمد شاكر - رحمه الله - : إسناده صحيح ، وفي مستدرك الحاكم ( 2 / 254 ) وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي .
(1/144)
________________________________________
وهذا المعنى مروي عن عدد من أئمة التفسير واختاره - الحافظ ابن كثير وغيره (1) .
الآية الثانية : قوله تعالى : { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } (2) .
قال البغوي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية : معنى الآية : " أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يدخل أهل الملل كلها في الإسلام ، ويكون الدين كله لله ، فلا يكون بعده جهاد ولا قتال ، وذلك عند نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام " (3) .
والآية الثالثة : قوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } (4) .
قرر كثير من المفسرين أن الضميرين في ( به ) ، و ( موته ) لعيسى ابن مريم عليه السلام (5) .
_________
(1) انظر : تفسير ابن كثير ( 4 / 131 - 132 ) ، وأيضا : تفسير الطبري ( 25 / 90 ) .
(2) سورة محمد ، الآية : 4 .
(3) تفسير البغوي ( 4 / 179 ) .
(4) سورة النساء ، الآية : 159 .
(5) انظر : تفسير الطبري ( 6 / 21 ) ، وتفسير البغوي ( 1 / 497 ) ، وتفسير ابن كثير ( 1 / 577 ) .
(1/145)
________________________________________
وقد روى ابن جرير الطبري - رحمه الله - عن أبي مالك - رحمه الله - في قوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال : " ذلك عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام ، لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمن به " (1)
يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - : " ولا شك أن هذا هو الصحيح ؛ لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه ، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك ، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك ، وإنما شبه لهم ، فقتلوا الشبه وهم لا يتبينون ذلك ، فأخبر الله أنه رفعه إليه ، وأنه باق حي ، وأنه سينزل قبل يوم القيامة ، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة التي سنوردها إن شاء الله قريبا ، فيقتل مسيح الضلالة ، ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، يعني : لا يقبلها من أحد من أهل الأديان ، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف ، فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم " (2) .
_________
(1) تفسير ابن جرير الطبري . ( 6 / 18 ) .
(2) تفسير ابن كثير : ( 1 / 514 ) .
(1/146)
________________________________________
وأما الأدلة من السنة المطهرة على نزوله فهي كثيرة جدا منها : حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، لا يقبلها من كافر ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها » (1) .
ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه : اقرأوا إن شئتم : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } (2) .
ومنها حديث جابر رضي الله عنه : قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم : « " لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة " ، قال : " فينزل عيسى ابن مريم عليه السلام فيقول أميرهم : تعال صل لنا ، فيقول : لا ، إن بعضكم على بعض أمراء ، تكرمة الله لهذه الأمة » (3) .
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب الأنبياء ( 4 / 143 ) ، ومسلم في صحيحه : كتاب الإيمان ( 1 / 135 ) .
(2) سورة النساء ، الآية : 159 .
(3) أخرجه مسلم : كتاب الإيمان ، ( 1 / 137 ) .
(1/147)
________________________________________
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الأنبياء إخوة لعلات (1) أمهاتهم شتى ودينهم واحد ، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم ؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبي ، وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه : رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ، عليه ثوبان ممصران (2) ، كأن رأسه يقطر ، وإن لم يصبه بلل ، فيدق الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويدعو الناس إلى الإسلام ، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال ، ثم تقع الأمنة على الأرض ، حتى ترتع الأسود مع الإبل ، والنمار مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم ، فيمكث أربعين سنة ، ثم يتوفى ، ويصلي عليه المسلمون » (3) إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة .
_________
(1) العلات : جمع علة ، والعلة هي الضرة ، والمراد : الإخوة من أمهات مختلفة وأبوهم واحد ، والمراد أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة : النهاية في غريب الحديث . ( 3 / 291 ) .
(2) الممصران : تثنية ممصر ، والممصر من الثياب الذي فجه صفرة خفيفة . النهاية لابن الأثير ( 4 / 336 ) .
(3) أخرجه أحمد ( 2 / 406 ) وقال أحمد شاكر : حديث صحيح ، عمدة التفسير ( 4 / 36 ) ، وأبو داود : كتاب الملاحم ، باب خروج الدجال ( 4 / 498 ) ، والحاكم ( 2 / 595 ) ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي . وقال ابن كثير - رحمه الله - في النهاية في الفتن والملاحم ( 1 / 188 ) : وهذا إسناد جيد قوي .
(1/148)
________________________________________
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - معلقا على أحاديث نزول عيسى عليه السلام : " فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة وابن مسعود ، وعثمان بن أبي العاص ، والنواس بن سمعان ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، ومجمع بن جارية ، وأبي سريحة حذيفة بن أسيد رضي الله عنهم ، وفيها دلالة على صفة نزوله ومكانه ، وأنه بالشام ، بل بدمشق عند المنارة الشرقية ، وأن ذلك يكون عند الإقامة لصلاة الصبح . . . فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام كما تقدم في الصحيحين ، وهذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وتقرير وتشريع وتسويغ له على ذلك في ذلك الزمان ، حيث تنزاح عللهم ، وترتفع شبههم من أنفسهم ، ولهذا كلهم يدخلون في دين الإسلام متابعة لعيسى عليه السلام وعلى يديه ، ولهذا قال تعالى : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } (1) . وهذه الآية كقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ } (2) وقرئ " لَعَلَم بالتحريك ، أي أمارة ودليل على اقتراب الساعة ، وذلك لأنه ينزل بعد خروج المسيح
_________
(1) سورة النساء ، الآية : 159 .
(2) سورة الزخرف ، الآية : 61 .
(1/149)
________________________________________
الدجال فيقتله الله على يديه ويبعث الله في أيامه يأجوج ومأجوج فيهلكهم الله ببركة دعائه " (1) .
وقد أجمعت الأمة على نزول عيسى عليه السلام علما من أعلام الساعة ، ولم يخالف في ذلك إلا من شذ ممن لا يلتفت إليه ولا يعتد بخلافه (2) .
قال السفاريني - رحمه الله - : " أجمعت الأمة على نزوله ، ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة ، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة ، ممن لا يعتد بخلافه ، وقد انعقد إجماع الأمة على أنه ينزل ويحكم بهذه الشريعة المحمدية ، وليس ينزل بشريعة مستقلة عند نزوله من السماء ، وإن كانت قائمة به وهو متصف بها " (3) .
_________
(1) تفسير ابن كثير ( 1 / 519 ، 520 ) .
(2) انظر : الشريعة للآجري ص ( 381 ) . والشرح والإبانة ( 241 ) ، وشرح العقيدة الطحاوية : ( 505 ) .
(3) لوامع الأنوار البهية : ( 1 / 94 - 95 ) .
(1/150)
________________________________________
المسألة الثانية : صفات عيسى عليه السلام
أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن صفات عيسى عليه السلام فجاء في الروايات أنه رجل مربوع القامة ليس بالطويل ولا بالقصير ، جعد أحمر اللون ، عريض الصدر ، أقرب الناس شبها به عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه .
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رأيت عيسى وموسى وإبراهيم ، فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر » (1) .
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لم يكن بيني وبينه نبي - يعني عيسى - وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه : رجل مربوع ، إلى الحمرة والبياض ، عليه ثوبان ممصران ، كأن رأسه يقطر ، وإن لم يصبه بلل ، فيدق الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويدعو الناس إلى الإسلام ، فيهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام . . . » الحديث .
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « عرض علي الأنبياء فإذا موسى . . . ورأيت عيسى ابن مريم ، فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة بن مسعود . . . » الحديث (3) .
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب أحاديث الأنبياء ، ( 6 / 477 ) .
(2) تقدم تخريجه ص 113 .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب الإيمان ( 1 / 167 ) .