________________________________________
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : « لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر - يعني ابن صياد - في بعض طرق المدينة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتشهد أني رسول الله " ؟ فقال هو : أتشهد أني رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " آمنت بالله وملائكته وكتبه ، ما ترى " ؟ قال : أرى عرشا على الماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ترى عرش إبليس على البحر ، وما ترى " ؟ قال : أرى صادقين وكاذبا - أو كاذبين وصادقا - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لبس (1) عليه ، دعوه » (2) .
_________
(1) لبس عليه : أي اختلط عليه الأمر.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب الفتن وأشراط الساعة ( 4 / 2241 ) .
(1/132)
________________________________________
وعنه أيضا : « خرجنا حجاجا أو عمارا ومعنا ابن صياد ، قال : فنزلنا منزلا ، فتفرق الناس وبقيت أنا وهو . فاستوحشت منه وحشة شديدة مما يقال عليه ، قال : وجاء بمتاعه فوضعه مع متاعي ، فقلت : إن الحر شديد ، فلو وضعته تحت تلك الشجرة . قال : ففعل ، قال : فرفعت لنا غنم ، فانطلق فجاء بعس (1) فقال : اشرب أبا سعيد ! فقلت : إن الحر شديد واللبن حار ، ما بي إلا أني أكره أن أشرب عن يده - أو قال آخذ عن يده - فقال : أبا سعيد ! لقد هممت أن آخذ حبلا فأعلقه بشجرة ثم أختنق مما يقول لي الناس ، يا أبا سعيد : من خفي عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي عليكم معشر الأنصار ، ألست من أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو عقيم لا يولد له ، وقد تركت ولدي بالمدينة ؟ أو ليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يدخل المدينة ولا مكة ، وقد أقبلت من المدينة ، وأنا أريد مكة ؟ . قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : حتى كدت أن أعذره ، ثم قال : أما والله إني لأعرف مولده وأين هو الآن . قال : قلت له : تبا لك سائر اليوم » (2) (3) .
_________
(1) العس : هو القدح الكبير ، وجمعه عساس وأعساس ، النهاية في غريب الحديث ( 3 / 236 ) .
(2) تبا لك سائر اليوم : خسرانا وهلاكا لك في باقي اليوم ، وهو منصوب بفعل مضمر .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب الفتن وأشراط الساعة : ( 4 / 2242 ، 2243 ) .
(1/133)
________________________________________
ومن أقوال العلماء في ابن صياد هل هو الدجال الأكبر أم لا ، قوله البيهقي في سياق كلامه على حديث تميم الداري السابق فيه أن الدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان غير ابن صياد ، وكان ابن صياد أحد الدجالين الكذابين الذين أخبر صلى الله عليه وسلم بخروجهم ، وقد خرج أكثرهم ، وكأن الذين يجزمون بأن ابن صياد هو الدجال لم يسمعوا بقصة تميم ، وإلا فالجمع بينهما بعيد جدا ؛ إذ كيف يلتئم أن يكون من كان في أثناء الحياة النبوية شبه محتلم ، ويجتمع به النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله أن يكون في آخرها شيخا كبيرا مسجونا في جزيرة من جزائر البحر موثقا بالحديد يستفهم عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم هل خرج أو لا ؟ فالأولى أن يحمل على عدم الاطلاع ، أما عمر فيحتمل أن يكون ذلك منه قبل أن يسمع قصة تميم ثم لما سمعها لم يعد إلى الحلف المذكور ، وأما جابر فشهد حلفه عند النبي صلى الله عليه وسلم فاستصحب ما كان اطلع عليه من عمر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم (1) .
_________
(1) نقلا عن فتح الباري لابن حجر ( 13 / 326 - 327 ) .
(1/134)
________________________________________
وقال النووي : قال العلماء : وقصته مشكلة وأمره مشتبه في أنه هل هو المسيح الدجال المشهور أم غيره ، ولا شك في أنه دجال من الدجاجلة . قال العلماء : وظاهر الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوصف إليه بأنه المسيح الدجال ولا غيره ، وإنما أوحي إليه بصفات الدجال ، وكان في ابن صياد قرائن محتملة ، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقطع بأنه الدجال ولا غيره ، ولهذا قال لعمر رضي الله عنه : إن يكن هو فلن تستطيع قتله . وأما احتجاجه هو بأنه مسلم والدجال كافر ، وبأنه لا يولد للدجال وقد ولد له هو ، وأنه لا يدخل مكة والمدينة وأن ابن صياد دخل المدينة وهو متوجه إلى مكة ، فلا دلالة له فيه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن صفاته وقت فتنته وخروجه في الأرض ، ومن اشتباه قصته وكونه أحد الدجاجلة الكذابين قوله للنبي صلى الله عليه وسلم : أتشهد أني رسول الله ؟ ودعواه أنه يأتيه صادق وكاذب ، وأنه يرى عرشا فوق الماء ، وأنه لا يكره أن يكون هو الدجال ، وأنه يعرف موضعه ، وقوله : إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن ، وانتفاخه حتى ملأ السكة ، وأما إظهاره الإسلام وحجه وجهاده وإقلاعه عما كان عليه فليس
(1/135)
________________________________________
بصريح في أنه غير الدجال " (1) .
أقوال العلماء في ابن صياد :
قال أبو عبد الله القرطبي : " الصحيح أن ابن صياد هو الدجال بدلالة ما تقدم ، وما يبعد أن يكون بالجزيرة في ذلك الوقت ، ويكون بين أظهر الصحابة في وقت آخر " (2) .
ويفهم من كلام النووي والقرطبي السابق أنهما يرجحان كون ابن صياد هو الدجال .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في معرض كلامه على الأحوال الشيطانية : " وهذا بخلاف الأحوال الشيطانية مثل حال عبد الله بن صياد الذي ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان قد ظن بعض الصحابة أنه الدجال ، وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في أمره حتى تبين له فيما بعد أنه ليس هو الدجال ، لكنه من جنس الكهان " (3) .
وقال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بعد أن ساق الأحاديث الواردة في ابن صياد وهل هو الدجال الأكبر أم لا ، قال : وقد قدمنا أن الصحيح أن الدجال غير ابن صياد وأن ابن صياد كان دجالا من الدجاجلة ثم تاب بعد ذلك فأظهر الإسلام ، والله أعلم بضميره وسيرته (4) .
_________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي ( 18 / 46 ، 47 ) .
(2) التذكرة ( 2 / 822 ) .
(3) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص ( 166 ) .
(4) النهاية في الفتن والملاحم : ( 1 / 173 ) .
(1/136)
________________________________________
ولعل ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - والحافظ ابن كثير - رحمه الله - هو الراجح في ابن صياد ، وأنه دجال من الدجاجلة وليس هو الدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان - والله أعلم .
وأما المسألة الثانية : وهي الحكمة من عدم ذكر الدجال في القرآن صراحة ، فقد أجاب على ذلك الحافظ ابن حجر - رحمه الله - بقوله : اشتهر السؤال عن الحكمة في عدم التصريح بذكر الدجال في القرآن مع ما ذكر عنه من الشر ، وعظم الفتنة به ، وتحذير الأنبياء منه ، والأمر بالاستعاذة منه حتى في الصلاة ، وأجيب بأجوبة :
أحدها : أنه ذكر في قوله تعالى : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا } (1) ، فقد أخرج الترمذي وصححه عن أبي هريرة رفعه : « ثلاثة إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل : الدجال ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها » .
_________
(1) سورة الأنعام ، الآية : 158 .
(1/137)
________________________________________
الثاني : قد وقعت الإشارة في القرآن إلى نزول عيسى ابن مريم في قوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } (1) ، وفي قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ } (2) ، وصح أنه الذي يقتل الدجال فاكتفي بذكر أحد الضدين عن الآخر ، ولكونه يلقب المسيح كعيسى ، لكن الدجال مسيح الضلالة وعيسى مسيح الهدى .
الثالث : أنه ترك ذكره احتقارا ، وتعقب بذكر يأجوج ومأجوج وليست الفتنة بهم بدون الفتنة بالدجال والذي قبله ، وتعقب بأن السؤال باق وهو ما الحكمة في ترك التنصيص عليه ؟ وأجاب شيخنا الإمام البلقيني بأنه اعتبر كل من ذكر في القرآن من المفسدين فوجد كل من ذكر إنما هم ممن مضى وانقضى أمره ، وأما من لم يجئ بعد فلم يذكر منهم أحدا ، انتهى . وهذا ينتقض بيأجوج ومأجوج .
وقد وقع في تفسير البغوي (3) : أن الدجال مذكور في القرآن في قوله تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } (4) ، وأن المراد بالناس هنا الدجال ، من إطلاق الكل على البعض ، وهذا إن ثبت أحسن الأجوبة فيكون من جملة ما تكفل النبي صلى الله عليه وسلم ببيانه والعلم عند الله تعالى (5) .
_________
(1) سورة النساء ، الآية : 159 .
(2) سورة الزخرف ، الآية : 61 .
(3) تفسير البغوي : ( 4 / 101 ).
(4) سورة غافر ، الآية : 57 .
(5) فتح الباري ( 13 / 91 ، 92 ) .