خمسة أحكام ناصعة أصدرها القضاء الإداري تستحق الفخر، وتجلب الفرح، وتدعم الثقة، وتصون حقوق المصريين في مواجهة غول القرارات الظالمة التي تصدرها الحكومة. خمسة في عين العدو، منها أربعة صدرت خلال هذا الشهر المجيد في تاريخ القضاء المصري.
الحكم بوقف تصدير الغاز إلي دولة العدو (إسرائيل)، والحكم بحق المصريين في تنظيم قوافل الإغاثة والمناصرة لأهلنا المحاصرين في غزة، والحكم بحق أهالي جزيرة القرصاية في تملك مساكنهم والاستقرار علي أرضهم. والتفسير الذي أصدره قسم الفتوي والتشريع بمجلس الدولة لحكم المحكمة الدستورية الذي صدر في مايو الماضي بشأن حقوق أصحاب المعاش المبكر في صرف مستحقاتهم عن خمس سنوات.
أما الحكم الخامس الذي صدر في سبتمبر الماضي، فقد ألغي قرار إنشاء شركة قابضة للتأمين الصحي، وأكد حق المصريين في العلاج. وأحبط محاولات خصخصة هيئة التأمين الصحي.
صدرت هذه الأحكام ضد رئيس الوزراء ووزراء البترول والداخلية والزراعة والمالية والصحة.
هؤلاء المسئولين بكل مواقعهم في السلطة، وسطوتهم الإدارية، وقوتهم التنفيذية، خسروا القضية، خسروا أمام من؟ أمام المواطن المصري العادي. فالذين رفعوا هذه الدعاوي وكسبوها هم مواطنون مصريون بلا سلطة ولا نفوذ ولا سلطان ولا هيلمان.
وهنا يكمن المغزي العميق لهذه الأحكام، ويتجلي الدور الوطني العظيم لمحكمة القضاء الإداري ولمجلس الدولة المصري.
عبر تاريخها، وكما تجلي هذا الشهر بهذه الأحكام، تمكنت محكمة القضاء الإداري من تأكيد دورها كأحد أهم أدوات الإنصاف للمواطن العادي. وكأحد أهم أدوات الاستجابة للمطالب الشعبية، ولمطالب الحركة الوطنية المصرية وكأهم أداة لمراقبة ومحاسبة الإدارة وسلطة الحكم في مصر.
وتتأكد أهمية الدور الوطني الكبير الذي يلعبه القضاء الإداري إذا ما قارناه بالدور الفعلي الذي تلعبه مؤسسات أخري في النظام السياسي المصري يفترض فيها أن تقوم بمراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية وجهاز ورجال الإدارة، لكنها تفرط أو تقصر في أداء دورها.
أعطي الدستور لمجلس الشعب سلطة مراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية، وحق إسقاط الحكومة أو أحد وزرائها، لكن الممارسة الفعلية حرمت البرلمان من سلطته الورقية. والأغلبية سابقة التجهيز للحزب الحاكم أهدرت الحق الدستوري لمجلس الشعب وحولته من أداة محاسبة للحكومة إلي أداة في يد الحكومة تستخدمه لإضفاء الشرعية علي قراراتها وستر عيوبها، والتواطؤ علي أخطائها، والنفاق الصريح لها.
والمجالس الشعبية المحلية بضمور صلاحياتها وتزييف انتخاباتها لا تملك سلطة محاسبة رجال الإدارة ولا حتي الجرأة علي انتقادهم.
والأحزاب المقيدة في النشأة والحركة لا تملك إزاء الإدارة الحكومية سلطة المحاسبة فتراوحت بين معارضة مستأنسة تتعيش من تأييد الحكم ومعارضة لفظية لا تملك إزاء السلطة إلا الكلمات.
حتي المظاهرات والتي أثبتت أنها أكثر فاعلية في محاسبة النظام، وخصوصاً في حركات الاحتجاج الاجتماعي، بقيت مقيدة بالحصار الأمني المكثف من ناحية، وبضعف قدراتها التنظيمية ومواردها البشرية من ناحية أخري.
إن ضعف هذه الأدوات في ظل الديمقراطية الديكورية السائدة في مصر أسبغ أهمية مضافة علي دور القضاء الإداري باعتباره الأداة الأقوي والأهم والأكثر رسوخاً وفاعلية التي يستطيع المواطن المصري أن يحتمي بها ويلجأ إليها لمحاسبة الحكومة وقرارات رجال الإدارة. أكثر مما يلجأ إلي البرلمان أو المجالس المحلية أو الأحزاب السياسية أو النقابات عمالية أو مهنية.
والمواطن علي حق حين يري هذه المؤسسات مجرر أدوات عاجزة لا تستطيع إجراء محاسبة جادة عادلة فاعلة لأي مسئول من رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء حتي رئيس المجلس القروي.
هناك آلاف القضايا التي كسبها المواطن العادي وخسرها هؤلاء المسئولون أمام القضاء الإداري، لكن كم قضية كسبها نفس المواطن ضد نفس المسئولين في البرلمان أو غيره من أدوات الرقابة والمحاسبة؟
وهذا ما يجعل من القضاء الإداري بطلاً شعبياً في مصر.
وهي بطولة يستحقها عن جدارة بفضل شجاعة وبسالة ونزاهة أجيال من القضاة العظام. ليس آخرهم المستشار الدكتور محمد أحمد عطية نائب رئيس مجلس الدولة الذي أصدر الحكم بوقف تصدير الغاز. نعرف منهم المستشار الأشهر السنهوري. ونعرف منهم المستشار الجليل طارق البشري الذي أصدر في 10 ديسمبر 1992 عندما كان نائباً لرئيس مجلس الدولة الحكم بإلغاء قرار رئيس الجمهورية بإحالة المدنيين إلي المحاكم العسكرية، وهو ما اعتبره بعض الثقاة أهم حكم في تاريخ القضاء الإداري المصري، رغم أن المحكمة الإدارية العليا ألغت هذا الحكم العظيم فيما بعد.
ونعرف منهم المستشار الجليل محمد الحسيني الذي أصدر عام 2007 حكماً مماثلاً لحكم البشري يبطل إحالة المدنيين للقضاء العسكري، ولقي نفس المصير في الإدارية العليا.
لكننا لا نعرف عشرات ومئات آخرين من المستشارين الأجلاء البواسل الذين أصدروا عشرات الآلاف من الأحكام المضيئة في تاريخنا انتصرت لملايين من المواطنين العاديين ضد حكومة غاشمة وقرارات ظالمة. تحية للقضاء الإداري حصن المصريين ضد الحكام الظالمين
الخميس نوفمبر 27, 2008 12:35 am
