مما سبق يتضح لنا أن خروج الدجال من أشراط الساعة الكبرى الثابتة ، ومن الأخبار المتواترة التي يجب الإيمان بها ، وفي ما مضى من الأدلة رد على من أنكر خروج الدجال بالكلية من الخوارج والجهمية والمعتزلة وغيرهم ممن سار على نهجهم قديما وحديثا ، أو قال إن ما يأتي به الدجال خيالات لا حقيقة لها ، فكل هؤلاء قد ردوا ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم .
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في معرض رده على هؤلاء : " وقد تقدم حديث حذيفة وغيره أن ماءه نار وناره ماء بارد ، وإنما ذلك في رأي العين ، وقد تمسك بهذا الحديث طائفة من العلماء كابن حزم ، والطحاوي وغيرهما في أن الدجال ممخرق (1) مموه لا حقيقة لما يبدي للناس من الأمور التي تشاهد في زمانه بل كلها خيالات عند هؤلاء " .
_________
(1) الممخرق : المشعوذ .
(1/139)
________________________________________
وقال الشيخ أبو علي الجبائي (1) - شيخ المعتزلة - : لا يجوز أن يكون كذلك حقيقة ؛ لئلا يشتبه خارق السحر بخارق النبي ، وقد أجابه القاضي عياض وغيره بأن الدجال إنما يدعي الإلهية ، وذلك مناف للبشرية فلا يمتنع إجراء الخارق على يديه والحالة هذه . وقد أنكرت طوائف كثيرة من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة خروج الدجال بالكلية ، وردوا الأحاديث الواردة فيه فلم يصنعوا شيئا ، وخرجوا بذلك عن حيز العلماء لردهم ما تواترت به الأخبار الصحيحة من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، وإنما أوردنا بعض ما ورد في هذا الباب ؛ لأن فيه كفاية ومقنعا ، والله المستعان .
_________
(1) محمد بن عبد الوهاب الجبائي البصري أبو علي الجبائي ، زعيم الطائفة الجبائية من المعتزلة ، تتلمذ عليه أبو الحسن الأشعري ثم ناظره وهجره ، توفي سنة 303 هـ . لسان الميزان ( 5 / 571 ) ، شذرات الذهب ( 2 / 241 ) .
(1/140)
________________________________________
والذي يظهر من الأحاديث المتقدمة أن الدجال يمتحن الله به عباده بما يخلقه معه من الخوارق المشاهدة في زمانه ، كما تقدم أن من استجاب له يأمر السماء فتمطرهم والأرض فتنبت لهم زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم وترجع إليهم سمانا ، ومن لا يستجيب له ويرد عليه أمره تصيبهم السنة والجدب والقحط والعلة وموت الأنعام ونقص الأموال والأنفس والثمرات ، وأنه تتبعه كنوز الأرض كيعاسيب النحل ، ويقتل ذلك الشاب ثم يحييه ، وهذا كله ليس بمخرقة بلِ له حقيقة امتحن الله به عباده في ذلك الزمان ، فيضل به كثيرا ويهدي به كثيراَ ، يكفر المرتابون ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا ، وقد حمل القاضي عياض وغيره على هذا المعنى معنى الحديث « هو أهون على الله من ذلك » .
(1/141)
________________________________________
أي هو أقل من أن يكون معه ما يضل به عباده المؤمنين ، وما ذاك إلا لأنه ظاهر النقص والفجور والظلم ، وإن كان معه من الخوارق ، وبين عينيه مكتوب كافر كتابة ظاهرة ، وقد حقق ذلك الشارع في خبره بقوله : ك - ف - ر . وقد دل ذلك على أنها كتابة حسية لا معنوية ، كما يقوله بعض الناس ، وعينه الواحدة عوراء شنيعة المنظر ناتئة ، وهو معنى قوله : « كأنها عنبة طافية » أي طافية على وجه الماء ، ومن روى ذلك طافئة فمعناه : لا ضوء فيها . وفي الحديث الآخر : « كأنها نخامة على حائط مجصص » أي بشعة الشكل ، وقد ورد في بعض الأحاديث أن عينه اليمنى عوراء رحا (1) اليسرى ، فإما أن تكون إحدى الروايتين غير محفوظة ، أو أن العور حاصل في كل من العينين ، ويكون معنى العور النقص والعيب .
_________
(1) «رحا اليسرى» أي مثلها ، كأن عينيه في التماثل حجرا الرحا.
(1/142)
________________________________________
ويقوي هذا الجواب : ما رواه الطبراني قال : حدثنا محمد بن محمد التمار وأبو خليفة قالا : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا زائدة ، حدثنا سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الدجال جعد هجان أقمر ، كأن رأسه غصن شجرة ، مطموس عينه اليسرى ، والأخرى كأنها عنبة طافية » الحديث (1) ، وكذلك رواه سفيان الثوري عن سماك بنحوه ، لكن قد جاء في الحديث المتقدم : « وعينه الأخرى كأنها كوكب دري » ، وعلى هذا فتكون الرواية الواحدة غلطا ، ويحتمل أن يكون المراد أن العين الواحدة عوراء في نفسها ، والأخرى عوراء باعتبار انبرازها ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب (2) .
_________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير ( 11 / 273 ).
(2) النهاية في الفتن والملاحم لابن كثير : ( 1 / 164 - 166 ) .