________________________________________
المطلب السابع : قبض العلم وظهور الجهل
من علامات الساعة التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم : قبض العلم وظهور الجهل ، فعن أبي موسى وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما - قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن بين يدي الساعة لأياما ينزل فيها الجهل ، ويرفع فيها العلم ، ويكثر فيها الهرج ، والهرج : القتل » (1) .
وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويثبت الجهل ، ويشرب الخمر ، ويظهر الزنا » (2) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يتقارب الزمان ، وينقص العمل ، ويلقى الشح ، وتظهر الفتن ، ويكثر الهرج ، قالوا : يا رسول الله ، أيم هو ؟ ، قال : القتل القتل » (3) .
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب الفتن ( 8 / 89 ) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب العلم ( 1 / 28 ) .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب العلم ( 1 / 29 ) .
(1/78)
________________________________________
قال ابن العربي (1) : " وأما ذهاب العلم ، قال المشيخة : فيكون بوجوده ، إما بمحوه من القلوب ، وقد كان في الذين قبلنا ، ثم عصم هذه الأمة ، فذهاب العلم منها بموت العلماء ، وقد قال جماعة من الناس : إن ذهاب العلم يكون أيضا بذهاب العمل به ، فيحفظون القرآن ولا يعملون به فيذهب العلم . . . والذي عندي أن الوجوه الثلاثة في هذه الأمة ، فقد يذنب الرجل حتى يذهب ذنبه علمه ، وقد يقرؤه ولا يعمل به ، وقد يقبض بعلمه فلا ينتفع أحد به ، أو يمنع من بثه فيذهب لوقته " (2) .
وقال القرطبي أثناء شرحه لحديث : « إن من أشراط الساعة أن يقل العلم ويظهر الجهل » : وأما قلة العلم وكثرة الجهل فذلك شائع في جميع البلاد ذائع ، أعني برفع العلم وقلته : ترك العمل به (3) .
وقال ابن حجر : قيل : إن المراد نقص علم كل عالم بأن يطرأ عليه النسيان مثلا ، وقيل : نقص العلم بموت أهله ، فكلما مات عالم ولم يخلفه غيره نقص العلم من تلك البلد (4) .
_________
(1) هو أبو بكر محمد بن عبد الله المعافري الإشمبيلي ، المالكي المعروف بابن العربي ، من حفاظ الحديث ، صنف كتبا كثيرة في الحديث والفقه والأصول والتفسير ، ومنها : العواصم من القواصم ، وعارضة الأحوذي شرح سن الترمذي . توفي سنة 543 هـ . وفيات الأعيان ( 1 / 489 ) نفح الطيب ( 1 / 340 ).
(2) عارضة الأحوذي ( 10 / 121 ) .
(3) التذكرة ص ( 748 - 749 ) .
(4) فتح الباري ( 13 / 17 ) .
(1/79)
________________________________________
وقد ورد ما يدل على أن المراد برفع العلم وكثرة الجهل : موت العلماء فلا يبقى إلا الجهال الذين يتخذهم الناس رؤساء فيضلوا ويضلوا غيرهم ، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا » (1) .
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب العلم ( 1 / 34 ) ، ومسلم في صحيحه : كتاب العلم ( 4 / 2053 ) .
(1/80)
________________________________________
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : « لما كان في حجة الوداع ؛ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ مردف الفضل بن عباس على جمل آدم ، فقال : " يا أيها الناس خذوا من العلم قبل أن يقبض العلم وقبل أن يرفع العلم " ، وقد كان أنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } (1) . قال : فكنا قد كرهنا كثيرا من مسألته واتقينا ذلك حين أنزل الله ذلك على نبيه صلى الله عليه وسلم . قال : فأتينا أعرابيا ، فرشوناه بردا ، فاعتم به ، حتى رأيت حاشيته خارجة من حاجبه الأيمن ، قال : ثم قلنا له : سل النبي صلى الله عليه وسلم . فقال له : يا نبي الله كيف يرفع العلم منا وبين أظهرنا المصاحف ، وقد تعلمنا ما فيها وعلمناها نساءنا وذرارينا وخدمنا ؟ قال : فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه وقد علت وجهه حمرة من الغضب ، قال : فقال : " أي ثكلتك أمك ، هذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف ، لم يصبحوا يتعلقون منها بحرف مما جاءتهم به
_________
(1) سورة المائدة ، الآية : 101 .
(1/81)
________________________________________
أنبياؤهم ، ألا وأن من ذهاب العلم أن يذهب حملته ( ثلاث مرات ) » . (1) .
يقول الحافظ النووي أثناء شرحه لحديث عبد الله بن عمرو السابق : " هذا الحديث يبين أن المراد بقبض العلم في الأحاديث السابقة المطلقة ليس محوه من صدور حفاظه ولكن معناه : أن يموت حملته ويتخذ الناس جهالا يحكمون بجهالتهم فيضلون ويضلون " (2) .
وقد وقع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في زمان من قبل فكيف بزماننا ، قال ابن بطال (3) : " وجميع ما تضمنه هذا الحديث من الأشراط قد رأيناها عيانا فقد نقص العلم وظهر الجهل ، وألقي الشح في القلوب وعمت الفتن وكثر القتل " (4) . من أجل هذا حث السلف على طلب العلم ، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : « عليكم بالعلم قبل أن يقبض ، وقبضه ذهاب أهله ، وعليكم بالعمل ، فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه ، وعليكم بالعلم ، وإياكم والتنطع والتعمق ، وعليكم بالعتيق » (5) . وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : « ما لي أرى علماءكم يذهبون ، وجهالكم لا يتعلمون ، فتعلموا قبل أن يرفع العلم ، فإن رفع العلم ذهاب العلماء » (6) . وقد ظهر مصداق هذا كله في زماننا ولم يبق العلم إلا في أناس قليل ، فحسبنا الله ونعم الوكيل .
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده : ( 3 / 266 ) ، والدارمي في سننه ( 1 / 68 ) مختصرا .
(2) شرح صحيح مسلم للنووي : ( 16 / 224 ) .
(3) هو أبو الحسن علي بن خلف بن بصاد القرطبي ، كان من أهل العلم والمعرفة ، شرح صحيح البخاري ، ينقل عنه الحافظ ابن حجر كثيرا ، توفي سنة 449 هـ . سير أعلام النبلاء ( 18 / 47 ) ، شذرات الذهب ( 3 / 283 ) .
(4) انظر : كتاب فتح الباري لابن حجر : ( 13 / 16 ) .
(5) أخرجه أبو داود في سننه : ( 4 / 63 ) .
(6) أخرجه الدارمي في سننه : ( 1 / 69 ) ، وابن عبد البر في جامع ببان العلم وفضله ص ( 207 ) .
(1/82)
________________________________________
المطلب الثامن : تكليم السباع والجماد للإنس
من أشراط الساعة التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم تكليم السباع الإنس ، وإخبار فخذ الرجل بما يحدث أهله بعده ، وكلام النعل والسوط لصاحبهما .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ، ثم أقبل على الناس فقال : " بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها ، فقالت : إنا لم نخلق لهذا ، إنما خلقنا للحرث ، فقال الناس : سبحان الله بقرة تكلم ؟ فقال : فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم ، وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب ، فذهب منها بشاة ، فطلب حتى كأنه استنقذها منه ، فقال له الذئب يا هذا : استنقذتها مني فمن لها يوم السبع ؟ يوم لا راعي لها غيري ! فقال الناس : سبحان الله ! ذئب يتكلم ؟ قال : فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم » (1) .
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب الأنبياء : ( 4 / 149 ) .
(1/83)
________________________________________
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : « عدا الذئب على شاة فأخذها ، فطلبه الراعي ، فانتزعها منه ، فأقعى (1) الذئب على ذنبه ، قال : ألا تتقي الله تنزع مني رزقا ساقه الله إلي ، فقال : يا عجبي ! ذئب مقع على ذنبه يكلمني كلام الإنس ، فقال الذئب : ألا أخبرك بأعجب من ذلك ؟ محمد صلى الله عليه وسلم بيثرب يخبر الناس بأنباء ما سبق ، قال : فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة ، فزواها إلى زاوية من زواياها ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودي بالصلاة جامعة ، ثم خرج ، فقال للراعي : " أخبرهم " ، فأخبرهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق ، والذي نفسي بيده ، لا تقوم الساعة حتى يكلم السباع الإنس ، ويكلم الرجل عذبة (2) سوطه وشراك (3) نعله ، ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده » (4) .
_________
(1) أقعى : من الإقعاء ، تقول : أقعى الكلب : إذا جلس على أسته . ترتيب القاموس المحيط : ( 3 / 663 ) .
(2) العذبة : هي طرف الشيء . النهاية في غريب الحديث ( 3 / 195 ) .
(3) الشراك : أحد سيور النعل التي تكون على وجهها . النهاية في غريب الحديث ( 2 / 467 ) .
(4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ( 3 / 83 ، 84 ) والترمذي في سننه ( 4 / 476 ) . وقال : هذا حديث حسن غريب ، وأخرجه الحاكم في المستدرك ( 4 / 468 ) ، وقال : هذا حديث صحيح . ووافقه الذهبي .
(1/84)
________________________________________
قال القرطبي : وفي هذا الحديث ما يرد على كفرة الأطباء والزنادقة الملحدين ، وأن الكلام ليس مرتبطا بالهيبة والبله ، وإنما الباري جلت قدرته يخلقه متى شاء في أي شيء شاء من جماد أو حيوان على ما قدره الخالق الرحمن ، فقد كان الحجر والشجر يسلمان عليه صلى الله عليه وسلم تسليم من نطق وتكلم ، ثبت ذلك في غير ما حديث ، وهو قول أهل أصول الدين في القديم والحديث .
وثبت باتفاق حديث البقرة والذئب وأنهما تكلما على ما أخبر عنهما صلى الله عليه وسلم في الصحيحين ، قاله ابن دحية (1) (2) .
فهذه أخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها أمارات للساعة ، وإن كانت أمورا خارقة للعادة جارية على غير المألوف إلا أنه يجب الإيمان بها وتصديقها لثبوتها عنه صلى الله عليه وسلم .
_________
(1) هو مجد الدين أبو الخطاب عمر بن حسن بن علي الجميل الكلبي الداني ، العلامة المحدث ، كان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء ، متفننا في الحديث والنحو واللغة وأيام العرب وأشعارها ، توفي سنة 633 هـ . سير أعلام النبلاء ( 22 / 389 - 394 ) ، شذرات الذهب ( 5 / 160 ) .
(2) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ص : ( 746 ) .